فصل: فصل فِيمَا وَرَدَ فِي تَعَاهُدِ القُرْآنِ الكريمْ والتَّرْهِيبِ مِنْ نِسْيَانِهِ واَلإعْرَاضِ عَنْه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل فِيمَا وَرَدَ فِي تَعَاهُدِ القُرْآنِ الكريمْ والتَّرْهِيبِ مِنْ نِسْيَانِهِ واَلإعْرَاضِ عَنْه:

يُسَنُّ خَتْمُهُ في كُلِّ أُسْبُوع لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللهِ بن عَمْرو رَضِي اللهُ عَنْهَا: «وَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ لَيَالٍ وَلاَ تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ بن حَنْبَل رحمهما الله كَانَ أَبِي يَخْتِمُ القُرآنَ في النَّهَارِ فِي كُلِّ أُسْبُوع، يَقْرأُ كُلَّ يَوْمِ سُبْعًا لا يكادُ يَتْرَكَهُ نَظَرًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَبدِ اللهِ بن عَمْرو رضي الله عنهما: «واقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ». وَإِنْ قَرَأَ فِي ثَلاثٍ فَحَسَنْ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عَبدِ اللهِ بن عَمْرو رضي الله عنهما قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي قُوَّةً، قَالَ: «اقْرَأْ في كُلِّ ثَلاثٍ». رواهُ أبُو داودْ. ولا بَأسَ فِيمَا دُونَها أَحْيَانًا، وَفِي الأَوْقَات الفَاضِلِةِ كَرَمَضَانَ، خُصُوصًا اللَّيَالِي التِي تُطْلَبُ فِيهَا لَيْلَةُ القدر.
وَيَنْبَغِي لِقَارِئِ القُرْآنِ أنْ يَتَعَّهدَهُ بالْحِفْظِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى تِلاوَتِهِ، وَلَيْحَذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ هُجْرَانِهِ وَتَرْكِ التَّعَهُّدِ لَهُ، فَيَتَعَّرضَ بِذَلِك لِنِسْيَانِهِ وَتَرْكِ العَمَلِ بِهِ الذِي هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ.
قالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ الله: هَجْرُ الْقُرْآنِ أَنْوَاع:
أَحَدُهُمَا: هَجْرُ سَمَاعِهِ، والإيمانِ بِهِ، وَالإِصْغَاءِ إِلَيْهِ.
والثَّاني: هَجْرُ العَمَلِ بِهِ والوُقُوفِ عِندَ حَلالِهِ وَحَرَامِهِ، وَإِنْ قَرَأَهُ وَآمَنَ بِهِ.
لا شَيْءَ مِثْلَ كَلامَ اللهِ تَحْفَظُهُ ** حِفْظًا قَوِيًّا وَتَعْمَلْ فِيهِ مُجْتَهِدَا

وَالثَّالثْ: هَجْرُ تَحْكِيمِهِ وَالتَّحَاكُمْ إِلَيْهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ وَاعْتِقَادِ أَنَّهُ لا يُفِيدُ اليَقِينِ وَأَنَّ أَدَلَّتَهُ لَفْظِيةَ لا تُحَصِّلُ العِلمَ.
والرَّابِعْ: هَجْرُ الاسْتِشْفَاءِ وَالتَّدَاوِي بِهِ في جَمِيعِ أَمْرَاضِ القُلُوبِ وَأَدْوَائِهَا، فَيَطْلُب شِفَاءَ دَائِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَيَهْجُرُ التَّدَاوِي بِهِ.
وَالْخَامِسُ: هَجْر تَدَبُّرِهِ وَتَفَهُّمِهِ وَمَعْرِفَةِ مَا أَرَادَ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهُ.
وَكُلُّ هَذَا دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً}.
وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمِدْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةْ: أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلاً مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ، وَرَجُلاً قَائِمًا بِيَدِهِ فَهْرٌ أَوْ صَخْرَةٌ فَيَشْدَخُ بِهَا رَأْسَهُ: فَيَتَدَهْدَهْ، فَإِذَا ذَهَبَ لِيَأْخُذَهُ عَادَ رَأْسَهُ كَمَا كَانَ فَيَصْنَعُ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقِيلَ لَهُ: رَجُلٌ أَتَاهُ اللهُ القُرْآنَ فَنَامَ عَنْهُ بَاللَّيْلِ وَلَمْ يَعْمَل بِهِ بِالنَّهَارْ، فَهُوَ يَفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ إِلى يومِ القِيامَ.
وَفي حدِيثِ عَمْرو بن شُعَيْب مَرْفُوعًا: «يُمَثَّلُ القُرآنُ يَومَ القِيَامَةِ رَجُلاً فَيُؤْتَى بالرَّجُلِ قَدْ حَمَلَهُ فَخَالَفَ أَمْرَهُ فَيَتَمَثَّلُ لَهُ خَصْمًا، فَيقُولُ: يَا رَبْ، حَمَّلْتَهُ إِيَّاي فَبِئْسَ حَامِلٌ تَعَدَّى حُدُودِي، وَضَيَّعَ فَرَائِضِي، وَرَكَبَ مَعْصِيَتِي وَتَرَكَ طَاعَتِي، فَمَا يَزَالُ يَقْذِفُ عَلَيْهِ بالْحُجَجِ حَتَّى يُقَالُ شَأنَكَ بِهِ فَيأخُذُ بِيَدِهِ فَمَا يُرْسِلَهُ حَتَّى يُكِبَّهُ على مِنْخِرِهِ في النَّارِ». الحديث.
ثلاثَةُ أَسْفَارٍ هَنِيئًا لِمَنْ لَهَا ** يُلازِمُهَا حِفْظًا وَدَرْسًا وَيَفْهَمُ

كِتَابَ إِلهِ الْخَلْقِ جَلَّ جَلالُهُ ** كَذَاكَ البُخَارِي ثُمَّ يَتْلُوهُ مِسْلِمُ

وَعَنْ سَعْدِ بِنْ عُبَادَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ امْرِئِ يَقْرَأُ القرآن ثُمَّ يَنْسَاهُ إلا لَقِيَ اللهَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَجْذَمْ». رواهُ أبو داود.
وَعَنْ أَبِي مَوْسىَ الأَشْعَرِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «تَعَاهَدُوا هَذَا القُرْآنْ- فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه- لَهُوْ أَشَدَّ تَفَلُّتًا مِنْ الإِبْلِ مِنْ عُقُلِهَا». رَوَاهُ البخاري، ومسلم. وَعَنْ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ القُرآنِ كَمَثَلِ الإِبلِ الْمُعَلَّقَةْ إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ أَطَلْقَهَا ذَهَبَتْ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ عباس رضي الله عنهما تَكَفَّلَ الله لِمَنْ قَرَأ القُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَنْ لا يَضِلَّ في الدُّنْيَا وَلا يَشْقَى في الآخرة، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}. اهـ.
وَرَوَى أَنَسٌ رَضِي اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «عُرضَتْ عَلَيَّ أَجُورَ أُمَّتِي حَتَّى القِذَاةَ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنْ المسجدِ وَعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبَ أمتي فلمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَة منِ القرآنِ أَوْ آيَةٍ أَوُتيِهَا الرَّجُلَ ثُمَّ نَسِيَهَا». وَيَا لِلأَسفِ اسْتَبْدَلُوا الْخَبِيثَ بالطَّيِّبِ أَكَبَّوا عَلَى الجَرَائِدِ وَالمَجَّلاتِ وَالكُتُبِ الْخَلِيعَاتِ بَدَل تِلاوَةِ كِتَابِ الله فَلا حَوْلَ ولا قُوةَ إلا باللهِ العَلي العظيم، وهو حَسْبُنَا ونَعْمَ الوَكِيل.
قَدْ بَلَوْتُ النَّاسَ حَتَّى ** لَمْ أَجِدْ شَخْصًا أَمِينَا

وَانْتَهَتْ حَالِي إِلى أَن ** صِرْتُ في البَيْتِ حَزِينَا

أَمْدَحُ الوَحْدَةَ حِينًا ** وَأَذُّمُ الْجَمْعَ حِينَا

إِنَّمَا السَّالِمُ مَنْ لَمْ ** يَتَّخِذْ خَلْقًا قَرِينَا

وَفِي الْحَدِيثِ الذي رَوَاهُ التِّرْمِذِي وَغَيْرُه عَنْ عَلَيَّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنٌ». قُلْتُ: فمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لاَ تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ وَلاَ تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسُنُ، وَلاَ تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلاَ تَشْبَعُ مِنْهُ العُلَماءُ، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ». وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فصل:
إِذَا فَهِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ القُرْآنِ قَدْ بُيِّنَ فِيهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ العِبَادِ مِنْ أَصُولِ الدِّينِ وَفُروعِهِ وأحكام الدَّارِينِ حَتَّى أَنَّهُ تَعَالى يُثَنِّي الأُمُورَ الكِبَارَ التِي يَحْتَاجُ القَلْبُ لِمُرُورِهَا عَلَيْهِ كُلَّ وَقِتِ وَإِعَادَتِهَا فِي كُلِّ سَاعَةِ بَألفاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَدلةٍ مُتَنَزِّعَةٍ لِتَسْتَقِرَّ في القلوبْ.
قَالَ تَعَالى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، وَقَالَ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ}، وَقَالَ تَعَالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} فَفِيهِ بَيَانُ الحلالِ والحرامِ وَالثَّوَابِ والعِقَابِ وَهُدىً مِنْ الضَّلالَةِ، رَحْمَةً لِمَنْ صَدَّقَ بِهِ وَعَمِلَ فِيهِ وَحَكَّمَهُ في الدَّقِيقِ وَالجَلِيلِ وَالوَيْلُ لِمَنْ رَجَعَ إلى القَوَانِينِ وَتَرَكَهُ فَكُلُّ حُكْمٍ سِوَى حُكْمِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ مَرْدُودُ، وَكُلُّ حَاكِمٍ بَغْيِرِ حُكْمِهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ فَهُو طَاغُوتُ كَافِرِ باللهِ وَمَا أكْثَرَهم في هذا الزَمَنِ الْمُحَكِّمِينَ لِلْقَوَانِينِ الوَضْعِيَّةِ وَالأَنْظِمَةِ الْحَالِيَّةِ.
قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} وَهَذَا عَامٌ شَامِلٌ فَمَا مِنْ قَضِيَّةٍ إِلا وَللهِ فِيهَا حُكْم، قَالَ اللهُ تَعَالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} وَقَالَ تَعَالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} فَهَذِه الآيةُ الْجَلِيلَةُ القَدْرِ عَظِيمَةُ الموقِعْ كَبِيرَةُ الفَائِدَةِ حَسَنَةُ الْمَغْزَى اخْتَارَهَا الرَّبُّ سَبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِيَخْتِمَ بِهَا كِتَابَهُ الكَرِيمَ وَوَحْيَهُ المعْجِزَ وَأَحْكَامَ شَرِيعَتِهِ السَّمْحَةِ وَدِينَهُ الْحَنِيفْ.
وَمِنْ مَزَايَا هَذِهِ الآيةِ الكَرِيمَةِ التِي انْفَرَدَتْ بِهَا عَمَّا بَقِيَ مِنْ السِّورُ والآياتِ أَنَّ الله أَكْمَلَ بِهَا الدِّينَ بِمَعْرِفَةِ الأَحْكَامِ الشَّرعِيَةِ مِنْ الفَرَائِض وَالسُّنَنِ وَالحُدُودِ وَالأحكامِ وَالحلالِ وَالحرامِ وَلَمْ يَنْزِلُ بَعْدَهَا حَلالٌ وَلا حَرَامٌ وَلا شَيْءٌ مِنَ الفَرَائِض وَأَتمّ بِهَا النّعمَةُ على عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِدَايَتِهِمْ لأَحْكَامِهِ وَتَوْفِيقِهِم لِمَعْرِفَةِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَحَلالِهِ وَحَرَامِهِ وَإنجازِهِ سُبْحَانَهُ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ}.
فَكَانَ مِنْ تَمَامِ نِعْمَتِهِ أَنْ دَخَلُوا مَكَّةَ آمِنِينَ مُطْمَئِنِينَ لَمْ يُخَالِطُهُمْ أَحَدٌ مِن المشْرِكِينَ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ اخْتَارِ لِهَذِهِ الأُمَّةَ دِينِ الإِسْلامِ وَمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنْ الأَدْيَانِ كُلِّهَا بَيَانًا لِشَرَفِ هَذَا الدِّينِ وَاعْتِنَاءِ بِأَمَّةِ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَحَسْبُنَا مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}، وَقَوْلُهُ تَعَالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
وَهَذَا مَا دَعَا كَعْبُ الأحبارُ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ وَكَانَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ اليهودِ أَنْ يَقُولَ لِخَلِيفَةِ الْمُسْلِمِينَ عُمُرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا أَمِيرَ المؤمنينَ آيةٌ في كِتَابِكم تَقْرءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليهودِ نَزَلَتْ لاتَّخَذْنَاهَا عِيَا وَأَقْمَنَا لَهَا مُحْتَفَلاً في كُلِّ عَامِ نُجَدِّدُ ذِكْرَاهَا وَنَتَدَارَسُ فَضَائِلَهَا الكثيرةِ وَذِكْرَيَاتِهَا العَطِرَةِ.
فَيَبْتَدِرُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَائِلاً: أيُ آيةِ هِيَ؟ قَالَ كَعْب: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} فَيُجِيبُهُ أَمِيرُ المؤمنينَ بِكُلِّ تَؤُدَةٍ وَسَكِينَةِ قَائِلاً: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ وَالْمَكَانَ الذي نَزَلَت فيهِ على النبيّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ. وَفِي رِوَايةِ إسحاقَ بنِ قبيصَة: نَزَلَتْ يَوْمَ جُمُعَةٍ يَوْمَ عَرَفَةَ وَكِلاهُمَا بِحَمْدَ اللهِ لَنَا عِيدًا. اهـ.

.الأدلَة على وُجُوبِ التَّحَاكُمِ لِلكِتَابِ وَالسَّنةِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ مُخَالَفَتِهِ:

وَمِنَ الأدلَةِ على وُجُوبِ الرُّجُوعِ إلى الكِتَابِ وَالسَّنةِ عِندَ التَّحَاكُمِ مَا يَلِي:
قَالَ تَعَالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ}.
وَقَالَ تَعَالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} الآية.
وَقَالَ تَعَالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية.
وَقَالَ تَعَالى: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} الآية.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «تَرَكْتُكُمْ عَلى الْمَحَجَّةِ البَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلا هَالِكٌ». وَقَالَ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ: «مَا بُعِثَ مِنْ نَبِيَّ إِلا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أَمَّتَهُ على خَيْرِ مَا يَعْلَمَهُ لَهُمْ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ شَرِّ مَا يَعْلَمَهُ لَهُمُ». وَقَالَ أَبُو ذَرْ: لَقَدْ تُوُفِّي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا طَائُرٌ يُقَلِّبُ جِنَاحَيْهِ في السَّمَاءِ إِلا ذَكَرَ لَنَا مِنْهُ عِلْمًا.
وَلا شَكَّ أَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ كِتَابِ اللهِ وَسَنَّةَ رَسُولِهِ وَاعْتَاضَ عَنْهُمَا بالقَوَانِينِ الوَضْعِيَّةِ أَنَّهُ كافرٌ كُفْرٌ نَاقِلٌ عَنِ الْمِلَّةِ الإِسْلامِيَّةِ وَكَذَا مَنِ اسْتَهْزَأَ بالقُرْآنِ أَوْ طَلَبَ تَنَاقُضَهُ أَوْ دَعْوَى أَنَّهُ مُخْتَلِفٌ أَوْ مُخْتَلِقٌ أَوْ أَثْبَتَ شَيْئًا نَفَاهُ القُرْآنُ أَوْ نَفَا مَا أَثْبَتَهُ القُرْآنُ فَقَدْ كَفَرَ. قَالَ تَعَالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ}، وَقَالَ: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}، وَلا خِلافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ مَنْ جَحَدَ مِنْ القُرْآنِ سُورَةً أَوْ آيَةً أَوْ كَلِمَةً أَوْ حَرْفًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَقَالَ عَلِيٌّ: مَنْ كَفَرَ بِحَرْفٍ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ كُلِّهِ.
وَكَذَا مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَسَعُهُ الْخُروجُ عَنْ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، كَمَا وَسِعَ الخَضْرُ الخروجُ عن شَرِيعَةِ مُوسى، أَوْ زَعَمَ أَنَّ هَدْيَ غَيْرِ مُحَمَّدٍ أَفْضَلُ مِنْ هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ أَحْسَنْ؛ أَوْ زَعَمَ أَنَّهُ لا يَسَعُ النَّاسَ في مِثْلِ هَذِهِ العُصُورِ إلا الخِروجُ عن الشريعةِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ كافيةٌ في الزَّمَانِ الأَوَّلِ فَقَطْ وَأَمَّا في هَذِهِ الأزْمِنَةِ فَالشَّرِيعَةِ لا تُسَايِرُ الزَّمَنَ ولابد مِنْ تَنْظِيمِ قَوَانِينِ بِمَا يُنَاسِبُ الزَّمَنُ، فَلا شَكَّ أَنَّ هَذا الاعْتِقَادِ إِذَا صَدَرَ مِنْ إِنْسَانٍ فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَهَانَ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَتَنَقَّصَهُمَا وَلا شَكَّ في كُفْرِهِ وَخُروجِهِ مِنْ الدِّينِ الإسْلامِي بالكُلِّيَّةِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُحْتَاج لِلشَّرِيعَةِ فِي عِلْمِ الظَّاهِرِ دَوُنَ البَاطِنْ، أَوْ فِي عِلْمِ البَاطِنِ فَقَطْ أَوْ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ دُونَ عِلْمِ الْحَقِيقَةِ أَوْ أَنَّ هَذِهِ الشَّرَائِعِ غَيْرَ مَنْسُوخَةٍ بِدِينِ مُحَمَّدٍ، أَوْ اسْتَهَانَ بِدِينِ الإِسْلامِ، أَوْ تَنَقَّصَهُ أَوْ هَزَلَ بِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِهِ أَوْ بِمَنْ جَاءَ بِهِ وَكَذَلِكَ أَلْحَقَ بَعْضُ العُلَمَاءِ الاسْتِهَانَةِ بِحَمَلَِتهِ لأَجْلِ حَمْلِهِ فَهَذِهِ الأمورُ كُلُّهَا كُفْر. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا وَفَّقْتَ إِلَيْهِ القَوْم وَأَيْقِظْنَا مِنْ سِنَةِ الغَفْلَةِ وَالنَّوْم وَارْزُقْنَا الاسْتِعْدَادَ لِذَلِكَ اليَوْمِ الذِي يَرْبَحُ فِيهِ الْمُتَّقُونَ، اللَّهُمَّ عَامِلْنَا بِإحْسَانِكَ وَجُدْ عَلَيْنَا بِفَضْلِكَ وَامْتِنَانِكَ وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْ ذُلَّنَا بَيْنَ يَدَيْكَ وَاجْعَلْ رَغْبَتَنَا فِيمَا لَدَيْكَ وَلا تَحْرِمْنَا بِذُنُوبِنَا، وَلا تَطْرُدْنَا بِعُيوبِنَا، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

.فصل في التحذير عن الحكم بغير ما أنزل الله:

وَقَالَ فِي تَحْذِيرِ أَهْلِ الإِيمَانِ عَنِ الحُكْمِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ بَعْدَ سِيَاقِهِ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} الآيتين. ثُمَّ لَوْ لَمْ يَكُنْ في القُرْآنِ الْمَجِيدِ فِي الزِّجْرِ عَنِ إتِّبَاعَ القَوَانِينِ البَشَرِيَّةِ غَيْرُ هَذِهِ الآيةِ الكَرِيمَةِ لَكَفَتْ العَاقِلَ اللَّبِيبَ الذي أُوتِيَ رُشْدَهُ وَأَهَمَّهُ صَلاحُ قَلْبِهِ عَنْ تَطَلُّبِ غَيْرِهَا فَكِيفَ وَالقُرْآنِ كُلَّهُ يَدْعُو إِلى تَحْكِيمِ مَا أَنْزَلَ اللهُ وَعَدَمِ تَحْكِيمِ مَا عَدَاهُ، إِمَّا تَصْرِيحًا وَإِمَّا تَلْوِيحًا وَلَهُ جَاهَدَ وَيُجَاهِدُ مِنْ عِبَادِ اللهِ الْمُتَّقِينَ مِنْ لَدُنْ بُعِثَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إلى يومِ تَقُومُ السَّاعَةِ.
وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لا تَزَالُ طَائِفَةُ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرينَ عَلَى الْحَقِّ لا يَضُرَّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلا خِلافُ مَن خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأتِيَ أَمْرُ اللهِ». وَأَنَّهُ قَالَ: «لا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلى ضَلالَةٍ». فعَلَمِنْاَ بِذَلِكَ أَنَّ مِنَ الْمُمْتَنِعُ بِالسَّمْعِ أَنْ يَتَمَالأ العَالَمُ كُلَّهُمْ شَرْقًا مِنْ أُمَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى إتِّبَاعِ القَوَانِينِ البَشَرِيَّةِ وَعَدَمِ الْمُبَالاةِ بالْحُكْمِ الشَّرْعِي بَلْ لابد أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ وَلَوْ وَاحدٌ يُنْكِرُ عَلَى هَؤلاءِ الكُلِّ إِمَّا بِلِسَانِهِ إِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْتِكُوا بِهِ وَإِمَّا بِقَلْبِهِ وَظَنَّ الفَتْكَ بِهِ كَمَا قَدْ كَانَ أَيَّامَ الاسْتِبْدَادِ.
وَالغَرَضُ بَيَانُ أَنَّ طَائِفَةً عَلَى الْحَقِّ لا تَزَالُ تُقَاتِلُ وَتُجَاهِدُ عَلَى تَحْكِيمِ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِاللِّسَانِ وَالبَيَانِ وَالبَدَنِ وَالسِّنَانِ وَالمالِ وَكلِّ مُمْكِنٍ لِنَوْعِ الإِنْسَانِ وَأَنَّ بِهِ يتِمُّ نِظَامُ العَدْلِ وَالْمُلْكِ وَالدِّينِ وَالدُّنْيَا وَبِهِ يَسْتَقِيمُ أَمْرُ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَتَكْمُلَ لَهُمُ الرَّاحَةُ وَالأَمْنُ وَالْحُرِّيَةُ التَّامَةُ وَالسِّيَاسَةُ العَامةُ لِجَمِيعِ الْمِلَلِ والرِّعَايَا الْمُخْتَلِفَةِ الأَصْنَافِ وَالألْسِنَةِ وَالأَمزِحَةِ.
وَمَنْ شَكَّ فِي هَذَا فَلْيَنْظُرِ الفَرْقَ بَيْنَ حَالِ الإِسْلامِ في هذه القُرُونِ الْمُتَأَخّرَةِ التِي عُطَّلَتْ فِيهَا حُدُودُ الشَّريعَةِ وَأَحْكَامُهَا وَحَالِهِ فِي القُرُونِ الْمُتَقَدِّمَةَ التِي مَا كَانَتْ عَلَى شَيءٍ أَحْفَظُ مِنْهَا عَلَى أَحْكامِ الشَّريعَةِ وَأَرْعَى لَهَا يَجِدِ الْفَرقَ كَمَا بَيْنَ الثَّرَى وَالثُّرَيَّا، وَكَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ وَكَمَا قال الشاعر:
نَزَلُوا بِمَكَّةَ في قِبَائِلِ هَاشِمٍ ** وَنَزَلْتُ بِالْبَيْدَاءِ أَبْعَدَ مَنْزِل

أَلا تَرَى أَنَّ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ بَعْدَ وَفَاةِ نَبِيِّهَمْ صلى الله عليه وسلم فَتَحُوا مَا فَتَحُوا مِنْ أَقَالِيم البُلْدَانِ وَنَشَرُوا الإِسْلامَ وَالإيمان والقُرآنِ في مُدَّةِ نَحْوِ مائِةِ سَنَةٍ مَعَ قِلَِّة عَدَدِ الْمُسْلِمِين وَعُدَدِهِمْ وَضِيقِ ذَاتِ يدِهمْ وَنَحْنُ مَعَ كَثْرَةِ عُدَدِنَا وَوَفْرَةِ عَدَدِنَا وَهَائِلِ ثَرْوَتِنَا وَطَائِلِ قَوَّتِنَا لا نَزْدَادُ إلا ضُعْفًا وَتَقَهْقُرًا إلى الوَرَى وَذُلاً وَحَقَارَةً في عيُونِ الأَعْدَاءِ ذَلِكَ لأَن مَنْ لا يَنْصُرُ دِينَ الله لا يَنْصُرُهُ اللهُ قَالَ اللهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} فَرَتَّب نَصْرَهم على نَصْرِهِ بِإقَامَةِ طَاعَتهِ وَطَاعَةِ رَسُولِه.
وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلامَ رَحِمَهُ اللهُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}.
فَمَنْ لَمْ يَلْتَزِمُ تَحْكِيمِ اللهِ وَرَسُولِهِ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهم فَقَدْ أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِنَفْسِهِ أَنْ لا يُؤْمِنُوا. وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُلْتَزِمًا لِحُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِكَنْ عَصَى وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَهذَا بِمَنْزِلَةِ أَمْثَالِهِ مِنْ العُصَاة فَمَنْ لَمْ يَلْتَزِمُ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ كَافرُ وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى الأُمَّةِ في كلِّ مَا تَنَازَعَا فِيهِ مِنْ الأُمُورِ الاعْتِقَادِيَّةِ وَالعَمَليّةِ.
فالأُمُورُ الْمُشْتَرِكَةُ بَيْنَ الأُمَّةِ لا يُحْكَمُ فِيهَا إِلا بالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَيْسَ لأحَدٍ أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ بِقَوْلِ عَالِم ولا أَمِيرٍ ولا شَيخٍ ولا مَلِكٍ وَحُكَّامُ المسلمينَ في الأمُورِ المُعَيَّنَةِ لا يَحْكُمونَ في الأمورِ الكُلِّيَةِ وَإِذَا حَكمَوا في الْمُعِينَاتِ فَعَليهِمْ أَنْ يَحْكُمُوا بِمَا في كِتَابِ اللهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِمَا في سُنَّة َرسولِ اللهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا اجْتَهَدَ الْحَاكمُ بِرأيه. انتهى.
لأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لِمَا بَعَثَ مُعَاذًا إلى اليمنِ قَالَ: «بِمَ تَحْكُمْ؟» قَالَ بِكِتَابِ اللهِ «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟» قَالَ: بِسنةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟» قَالَ: أجْتَهِدُ رَأَيِي. قَالَ: «الْحَمْدُ اللهِ الذي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا يُرْضِي رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم».
وفي كِتَابِ عُمْرَ بِنْ عَبْدِ العزيزِ إلى عُرْوَة كَتَبْتَ إليَّ تَسْأَلَنِي عَنْ القضاءِ بَيْنَ النَّاسِ وَإِنَّ رَأَسَ القَضَاءِ إِتَّبَاعُ مَا فِي كِتَابِ اللهِ ثُمَّ القَضَاءُ بِسُنَّةِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ بِحُكمِ أَئِمَّة الْهُدَى ثُمَّ اسْتِشَارَةِ ذَوِي العلمِ وَالرَّأيِ وَذُكِرَ عَنْ سُفْيَانَ ابنُ عُيَينَةِ قَالَ: كَانَ ابنُ شُبْرَمَةَ يَقُولَ:
مَا في القَضَاءِِ شَفَاعَةٌ لِمُخَاصِمٍ ** عِنْد اللَّبِيبِ ولا الفَقِيهِ العَالِمِ

هَوِنْ عَلَيَّ إِذَا قَضَيْتُ بِسُنَّةٍ ** أَوْ بالكِتَابِ بِرَغْمِ أَنْفِ الرَّاغِمِ

وَقَضَيْتُ فِيمَا لَمْ أَجِدْ أَثَرًا بِهِ ** بِنَظَائِرِ مَعْرُوفَةٍ وَمَعَالِمٍ

وَعَنْ بن وَهْبِ قَالَ: قَالَ مَالِكُ: الْحُكْمُ حُكْمَانِ حُكْمٌ جَاءَ بِهِ كِتَابَ اللهَ، وَحُكْمُ أَحْكَمَتَّهُ السُّنَة، قَالَ: وَمُجْتَهِدٌ رَأْيَهُ فَلَعَلَّهُ يُوَفقْ.
وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهَ عَلى قَوْلِهِ تَعَالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} الآية: فَأَقْسَمَ سُبْحَانَه بَأَجلِّ مُقْسَمٍ بِهِ وَهُو بِنَفْسِهِ عَزَّ وَجَل عَلَى أَنَّهُ لا يَثْبُتُ لَهُمُ إيمَانَ ولا يَكُونُونَ مِنْ أَهْلِِهِ حَتَّى يُحَكِّمُوا الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم في جميعِ مَوَارِدِ النِّزَاعِ في جميعِ أَبْوَابِ الدِّينَ فَإِنَّ لَفْظَةَ: مَا، مِنْ صِيغِ العُمُوم تَقْتَضِي نَفْيَ الإِيمَانِ أَوْ يُوجَدَ تَحْكِيمُهُ في جميعِ مَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ.
وَلَمْ يَقْتَصِر عَلَى هَذا حَتَّى ضَمَّ إليه انْشِرَاحُ صُدِورِهم بِحُكْمِهِ حَيْثُ لا يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهم حَرَجًا وَهُو الضيقُ وَالحَصْرُ مِنْ حُكْمِه بَلْ يَقْبَلُوا حُكْمَهُ بالانْشِرَاحِ وَيُقَابِلُوهُ بِالتَّسْلِيمِ لا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَهُ على إغْمَاضِ وَيَشْرَبُونَ عَلى قَذَيّ فَإِنَّ هَذَا مُنَافٍ للإيمَان بَلْ لابد أَنْ يَكُونَ أَخْذُهُ بِقُبولٍ وَرِضَا وانْشِرَاحِ صُدُورٍ.
وَمَتَى أَرَادَ العَبْدُ أَنْ يَعْلَم هَذَا فَلْيَنْظُر في حالِهِ وَيُطَالِعُهُ في قَلْبِهِ عِنْدَ وُرُودِ حُكْمِهِ عَلَى خِلافِ هَواهُ وَغَرضِهِ فَسُبْحَانَ اللهِ كَمْ مِنْ حَزَازَةِ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مِنْ كَثِيرٍ النُّصُوصِ وَبِودِّهِمْ أَنْ لَوْ لَمْ يَرِدْوَكَمْ مِنْ حَرَارَةٍ في أَكْبَادِهِم مِنْهَا وَكَمْ مَنْ شَجَى فِي حُلُوقِهِم مِنْهَا وَمِنْ مُوْرِدَهَا سَتَبْدُوا لَهَمْ تِلَكَ السَّرَائِرُ بالذي يَسُوءُ وَيُخْزِي يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرِ.
ثُمَّ لَمْ يَقْتَصرُ سُبْحَانَهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى ضَمَّ إليهِ قَوْلَه تعالى: {وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} فذكرَ الفِعْلَ مُؤَكَّدًا بِمَصْدَرِهِ القَائِم مَقَامَ ذِكْرُهِ مَرَّتِين وَهُوَ الخُضُوعُ لَهُ والانقيادُ لِمَا حَكَمَ بِهِ طَوْعًا وَرِضًا وَتَسْلِيمًا لا قَهْرًا وَمُصَابَرَةً كَمَا يُسْلِمُ المقهُورُ لِمَنْ قَهَرَهُ كُرْهًا بَلْ تَسْلِيمَ عَبْدٍ مُطِيعٍ لِمَوْلاهُ وَسَيِّدِِهِ الذِي هُوَ أَحَبُّ شيء إليهِ يَعْلَمُ أنّ سَعَادَتَهُ وَفَلاحهَ في تَسْلِيمهِ إِلَيْهِ وَيَعْلَمُ بأنَّهُ أَوْلى بِهِ مِنْ نَفْسِهِ وَأَبَرَّ بِهِ مِنْهَا وأرْحَمُ بِهِ مِنْهَا وَأَنْصَحَ لَهُ مِنْهَا وَأَعْلَمُ بِمَصَالِحِهِ مِنْهَا وَأَقْدَرَ على تَخْلِيصِهَا.
وَأمَّلْ لِهَذَا الْمَعْنَى المذكُورِ في الآيةِ بوجُوهٍ عَدِيدَةٍ مِنْ التَّأَكِيدِ أولها تصديرُها بالقسم يَتضَّمَّن الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُه: لا يظمنون، وثانيها: تأكيده بنفس القسم، وثالثها: تأكيده بالمُقْسَمِ بِهِ وَهُوَ إقْسَامهُ بِنَفْسِهِ لا بشيَءٍ من مَخْلُوقَاتِهِ، ورَابعًا: تأكِيدُه بانتِفاءِ الحَرَجِ وَهُوَ وُجُودُ التَّسْلِيم، وخامُسُها: تأكيدُ الفِعْل بالْمَصْدَرِ ومَا هَذا إلا لِشِدَّة الحاجةِ إلى هذا الأمْرِ العَظِيمِ وَأَنَّهُ مِمَّا يُعْتَنَى بِهِ وَيُقَرَّرُ في نُفُوسِ العِبَادِ. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمِ.
فصل:
وَقال رَحِمَهُ الله: لَمَّا أَعْرَض النَّاسُ عَنْ تَحْكِيمِ الكِتَابِ وَالسُّنةِ وَالْمُحَاكَمَةِ إِلَيْهِمَا وَاعْتَقَدُوا عَدَمَ الاكْتِفَاءِ بِهِمَا وَعَدلوا إلى الآرَاءِ وَالقياسِ وَالاسْتِحْسَانِ وَأَقْوَالِ أَهْلِ الآرَاءِ عَرَضَ لَهَمْ مِنْ ذَلِكَ فَسَادٌ في فِطَرِهِمْ وَظُلْمَةٌ في قُلُوبِهم وَكَدَرٍ في أفْهَامِهِمْ وَمَحْقٍ في عُقُولِهِم فَعَمَّتْهمُ هَذِهِ الأُمُورُ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِمْ حَتَّى رَبَّى فِيهَا الصَّغِيرُ وَهَرِمَ عَلَيْهَا الكَبِيرُ فَلَمْ يَرَوْهَا مُنْكَرًا.
فَجَاءَتهمْ دَوْلَةٌ أُخْرَى أَقَامَتْ فِيهَا البِدَعَ مَقَامَ السُّنَن، والْهَوى مَقَامَ الرُّشْدِ، وَالضَّلالَ مَقَامَ الْهِدَايَةِ، والْمُنْكَرَ مَقَامَ الْمَعْرُوفِ، وَالْجَهْلَ مَقَامَ العِلْمِ، وَالرِّيَاءِ مَقَاَم النَّصِيحَةِ، وَالظُلْمَ مَقامَ العَدْلِ، فَصَارَتْ الدَّولَةُ وَالْغَلَبَةُ لِهَذِهِ الأُمُور وَأَهْلُها هُمُ الْمُشَارُ إليهم.
فَإِذَا رَأَيْتَ هَذِهِ الأُمُورَ قَدْ أَقْبَلَت وَرَايَاتِهَا قَدْ نُصِبَتْ وَجُيُوشَهَا قَدْ رَكِبَت فَبْطنُ الأَرْضِ واللهِ خَيْرٌ مِنْ ظَهْرها وَقُلل الجبالِ خَيْرٌ مِنْ السُّهولِ وَمُخَالَطَة الوَحْش أسْلَمُ مِنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ.
اقْشَعْرَّتِ الأَرْضُ وَأظْلَمَتِ السَّمَاءُ وَظَهَرَ الفَسَادُ في البرِّ وَالبَحْرِ مِنْ ظُلْمِ الفَجَرَةِ، وَذَهَبَتْ البَرَكَاتُ وَقلّتِ الْخَيْرَاتُ، وَهَزلَتِ الوحْشُ وَتَكَدَّرْتِ الْحَيَاةُ مِنْ فِسْقِ الظَّلَمةِ وَبَكَى ضُوءُ النَّهَارِ وَظُلْةُ اللَّيْل مِنْ الأَعْمَالِ الْخَبِيثَةِ والأَفْعَالِ الفَظِيعَةِ، وَشَكَا الكِرَامُ الكَتابُونَ وَالْمُعَقَّباتُ إلى رَبِّهم مِنْ كَثْرَةِ الفَواحِشِ وَغَلَبَةِ الْمُنْكَرَاتِ وَالقَبَائِحْ.
وَهَذَا وَالله مُنْذِرُ بِسَيْلِ عَذَابٍ قَدْ انْعَقَدَ غَمَامُهُ وَمُؤذِنٌ بَلِيْلِ قَدْ ادْلَهَمَّ ظَلامُهُ فَاعْزِلوا عَنْ طَرِيق هذا السَّيلُ بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ مَا دَامتِ التَّوبَةُ مُمْكِنَةٌ وَبَابُها مَفْتُوحًا وَكَأَنَّكُمُ بِالْبَابِ وَقَدْ أَغُلِقُ وَبالرَّهْنِ وَقَدْ غَلِقَ وَبِالْجِنَاحِ وَقَدْ عَلِقَ وَسَيَعْلَمُ الذِين ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون.
وَقَالْ:
واللهِ مَا خَوْفِي الذُّنُوبَ فَإِنَّها ** لَعَلَى سَبِيلِ الْعَفْوِ وَالغُفْرَانِ

لَكِنَّمَا أَخْشَى انْسِلاخَ القَلْبِ مِنْ ** تَحْكِيمِ هَذَا الوحْي والقُرْآنِ

وَرِضَا بآرَاءَ الرِّجَالِ وَخُرْصِهَا ** لا كَانَ ذَاكَ بِمِنَّةِ الْمَنَّانِ

فَبأيّ وَجْهٍ أَلْتَقِي رَبِّي إِذَا ** أَعْرَضْتُ عَنْ ذَا الوَحْي طُولَ زَمَانِ

وَعَزْلتُهُ عَمَّا أُرِيدُ لأَجْلِهِ ** عَزْلاً حَقِيقِيًا بلا كِتْمَان

اللَّهُمَّ ألْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِّكَ وَبَارِكْ لَنَا فِي الْحلال مِنْ رِزْقَكَ وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ، يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ، يَا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ وَمُجِيب الدّعَواتِ هَبْ لَنَا مَا سَأَلْنَاهُ وَحَقِّقْ رَجَاءَنَا فِيمَا تَمَنَّيْنَاهُ يَا مِنْ يَمْلِكُ حَوائِجَ السَّائِلين وَيَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِر الصَّامِتِينَ أَذِقْنَا بِرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ أَجْمَعِينَ.